آخر الأخبار

إسرائيل تُبيد الأمل: قصف مركز الإخصاب في غزة يُنهي أحلام آلاف العائلات بالإنجاب ويكشف وجهاً آخر للعدوان.للمزيد..

إسرائيل تُبيد الأمل: قصف مركز الإخصاب في غزة يُنهي أحلام آلاف العائلات بالإنجاب ويكشف وجهاً آخر للعدوان.للمزيد..

 

في أقصى زوايا المعاناة الفلسطينية، يتجلى مشهد جديد من الألم لا علاقة له بصوت القذائف فقط، بل بصمت الأرحام المشتاقة. ريم، التي انتظرت سبع سنوات لتسمع صرخة طفل تناديها "ماما"، فقدت أملها قبل أن تحتضنه، حين التهمت قذيفة إسرائيلية حلمها ومعه أكثر من أربعة آلاف جنين كانوا محفوظين في مركز بسمة للإخصاب.

منذ اللحظة التي بدأت فيها ريم إجراءات الزراعة، أعادت ترتيب تفاصيل منزلها، ورسمت ملامح طفلها في خيالها، وبدأت في المفاوضات الأزلية حول اسمه. لكن كل ذلك انهار في لحظة واحدة، حين استهدفت غارة إسرائيلية المركز، وقضت على وحدة الأجنة فيه بالكامل، في مشهد بات شاهداً على جانب مظلم وغير مألوف من العدوان.

في ديسمبر 2023، لم يكن القصف على مركز بسمة مجرد استهداف لبنية تحتية طبية، بل إعلان حرب على الخصوبة الفلسطينية. خمسة خزانات نيتروجين تعرضت للانفجار بسبب القصف، وارتفعت الحرارة داخلها لتقضي على آلاف الأجنة التي جُمدت بأمل أن تصبح حياة جديدة في ظروف أفضل.

تحقيق أممي وصف الحادث بأنه استهداف متعمد لمركز الخصوبة الرئيسي في غزة، في وقت حُرم فيه القطاع من الإمدادات الدوائية والغذائية، ما يضاعف من تأثير العدوان. الانتهاكات لم تتوقف عند حدود الأذى الجسدي، بل امتدت إلى أمل آلاف الأزواج في أن يصبحوا آباء وأمهات.

الشاب أحمد جربوع، أحد الذين فقدوا أجنتهم في المركز، تحدث عن رحلته الطويلة مع العقم، وكيف أنه خاض ثلاث محاولات زراعة على مدار سنوات، استهلك فيها كل ما يملك من مال وصبر. وفي المرة التي بدا فيها الأمل قريباً، جاء القصف لينهي كل شيء، ويتركه هو وزوجته في دوامة من الحزن والفراغ.

حالتهما النفسية تدهورت بشدة بعد الحادث، وفقدا آخر رابط عاطفي مع حلم الإنجاب، خاصة مع استمرار انهيار المنظومة الصحية، وانقطاع الكهرباء والإنترنت، وتراجع القدرة الاقتصادية بشكل شبه تام، ما جعل من التفكير بمحاولة جديدة ضرباً من الخيال.

رئيس مركز بسمة، د. بهاء الغلاييني، أوضح أن القصف أدى إلى فقدان حوالي 4000 جنين، بالإضافة إلى 1000 عينة أخرى من البويضات غير المخصبة والسائل المنوي، مشيراً إلى أن الأثر العاطفي والطبي لهذا الحدث غير قابل للقياس أو الترميم.

وأضاف الغلاييني أن بعض العائلات فقدت الفرصة الأخيرة للإنجاب، خاصة من يعانون من أمراض خبيثة أو تقدم في السن، وكانت هذه العينات المجمدة هي الأمل الوحيد المتبقي. والبعض قد يواجه انهياراً أسرياً، يصل إلى الطلاق، نتيجة الشعور بالعجز واليأس بعد ضياع هذا الحلم.

المركز كان يمثل بارقة أمل لمرضى السرطان، والنساء المتقدمات في السن، والرجال ممن يعانون من فشل الخصيتين. تدميره لم يكن مجرد ضربة طبية، بل ضربة وجودية لعائلات باتت محرومة من حقها الطبيعي في تكوين أسرة.

الأمم المتحدة اعتبرت ما حدث شكلاً من أشكال الإبادة الجماعية، وأشارت إلى أن التدمير المتعمد للمركز هو وسيلة لإيقاف الولادات الفلسطينية. التحقيق خلص إلى أن "إسرائيل" ارتكبت اثنتين من بين خمس جرائم تُعرفها اتفاقية الإبادة الجماعية، أبرزها خلق ظروف حياتية تقود للتدمير الجسدي.

الاعتداء على القدرة الإنجابية يعكس تحول العدوان من قصف البشر إلى قصف الأمل، ومن قتل الأطفال إلى قتل من لم يُولدوا بعد، ضمن سياسة ممنهجة تستهدف كل أشكال الحياة في غزة.

هذا النوع من الجرائم يعيد تشكيل الذاكرة الفلسطينية، من فقدان الأرض إلى فقدان البذرة، ومن حصار الجغرافيا إلى حصار النسل. وهو ما يضع المجتمع الدولي أمام امتحان أخلاقي جديد في مساءلة الاحتلال ومحاسبته.

وبينما ينشغل العالم بالأرقام والخسائر، يبقى الألم في غزة متجذراً في التفاصيل الصغيرة، في رحم أم لم يعد يستقبل الحياة، وفي عيون أب سُلب منه حلم أن يحمل طفله يوماً على كتفه.

العدوان لم يكتفِ بتدمير المنازل والمدارس والمستشفيات، بل وصل إلى الحد الذي يجعل المستقبل غير قابل للولادة، حرفياً. وهكذا تتحول غزة من مكان محاصر إلى مستقبل محاصر، ومن حرب على الأرض إلى حرب على النسل.

ومع كل ذلك، لا تزال المناشدات لإنقاذ ما تبقى من منظومة الخصوبة الفلسطينية تصطدم بصمت دولي قاتل، وكأن ولادة فلسطيني جديد باتت تهديداً أمنياً يُقابل بالقصف لا بالمساعدة.

وبينما تستمر العائلات في دفن أحلامها مع بقايا النيتروجين المنسكب، لا يسع ريم وأحمد والآلاف غيرهم سوى التحديق في فراغ أكبر من رحم لم يكتمل، في انتظار معجزة تُعيد الحياة لما لم يولد بعد.